بسم الله الرحمن الرحيم
آللهمَ صل على محمد وآلِ محمدسماحة الشيخ (حسن بن عبدالله العجمي العُماني) يناقش أدلة أهل السنة القرآنية على عدالة الصحابة بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد :
يستند علماء أهل السنة إلى العديد من الآيات القرآنية زاعمين دلالتها على عدالة جميع الصحابة ، ونحن سنناقش هنا عمدة أدلتهم على ذلك فمنها :
قوله تعالى: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ] (1) .
مدّعين أن [من] في قوله تعالى : ? مِنْهُمْ ? بيانية تفيد شمول الوعد لجميع الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله من الصحابة ولذلك حكموا بعدالة الجميع ، واستدالالهم على عدالة جميع الصحابة بهذه الآية الكريمة مردود للآتي :
إن الآية الكريمة تذكر مجموعة من الصفات لهؤلاء الذين كانوا معه صلى الله عليه وآله منها أنهم [أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ] ، لكننا إذا رجعنا إلى سيرة بعض هؤلاء الصحابة وواقع حالهم نجد أنهم يفتقدون هذه الصفة ، ومن أدلة ذلك انهزامهم في معركة حنين ، فعن أبي قتادة قال : ( لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله فأسرعت إلى الذي يختله فرفع يده ليضربني وأضرب يده فقطعتها ثم أخذني فضمني ضمّاً شديداً حتى تخوفت ، ثم ترك فتحلل ودفعته ثم قتلته وانهزم المسلمون وانهزمت معهم ، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس فقلت له ما شأن الناس ؟ قال أمر الله ، ثم تراجع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ) (2) .
فلقد كان عدد المسلمين الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله في معركة حنين ما يقارب إثني عشر ألف صحابي (3) انهزم جميعهم - باستثناء نفر قليل من أقرباء النبي صلى الله عليه وآله – لا يلوون على شيء تاركين رسول الله صلى الله عليه وآله هدفاً سهلاً للكافرين ، وكأنهم لم ينقضوا موثقاً ولم ينكثوا عهداً ولم يبايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا يفرّوا كما قال تعالى : [إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ] (4) .
وينقل أن النبي صلى الله عليه وآله أمر العبّاس في ذلك اليوم أن ينادي من انهزم من المسلمين ويستغيث بهم وبالخصوص بالمبايعين تحت الشجرة (5)، فرجع منهم مائة (6) ، ولم يرجع الباقون إلاّ بعد أن انتصر المسلمون ، يقول جابر بن عبد الله الأنصاري : (...فوالله ما رجعت راجعت النّاس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله ) (7) .
وقد أثبت الله هذه الحقيقة في كتابه فقال عزّ من قائل : [ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ] (8 ) .
فكيف يصح – بعد هذا - أن نصف هؤلاء المنهزمين من الصحابة يوم حنين بأنهم أشداء على الكفّار ؟!
ومن الصفات التي تذكرها الآية الكريمة للذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله أنهم ? رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ?، إلاّ أنا نجد أن هذه الصفة كانت مفقودة عند بعضهم ، والأدلة على ذلك عديدة منها : أنّ جماعة من الصحابة ومن أعانهم من سائر الناس بغوا على الإمام علي عليه السلام ومن كانوا معه من الصحابة وسائر المسلمين وذلك في معركة الجمل وصفين ، وقطعاً لم يكن هؤلاء البغاة رحماء بالإمام علي عليه السلام ومن معه حين بغوا عليهم وقاتلوهم وقتلوا منهم من قتلوا وجرحوا من جرحوا .
فإذا كان بعض الصحابة يفتقد الصفات التي أشارت إليها الآية أو بعضها فكيف يصح أن يزعم زاعم ويدّعي بأن الآية تدل على عدالة جميع الصحابة؟!
وعليه فحتى لو سلّمنا – جدلاً – أن :من; في الآية بيانية لا تبعيضية فإن الآية الكريمة قطعاً لا تعني جميع الصحابة وإنما فئة خاصة منهم اجتمعت فيهم الصفات المذكورة ، فهم وحدهم الذين يشملهم الوعد الإلهي دون غيرهم من سائر الصحابة ممن يفتقدونها .
ومن أدلتهم قوله تعالى : [ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ] (9) .
أقول :
أولاً : هذه الآية لا تدل على عدالة جميع الصحابة ، وذلك لأن أهل بيعة الرضوان كان عددهم حسب أعلى رقم ذكره المؤرخون 1800 صحابي (10) ، وعدد الصحابة المدّعى عدالتهم 124 ألف صحابي ، فالاستشهاد بهذه الآية على عدالة جميع هؤلاء باطل وعير صحيح .
ثانياً : إنّ استمرارية رضا الله عزّ وجل عن المؤمنين من أهل بيعة الرضوان مشروط بعدم نكث هذه البيعة ، بالثبات على قتال العدو وعدم الفرار ، وهذا ما أكده قوله تعالى : [ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ] (11) ، وبالاستقامة على جادة الشريعة ، أي بعدم ممارسة ما هو موجب لغضب الله عزّ وجل من الأفعال والأقوال ، فلو نكث المبايع تحت الشجرة بيعته ولم يثبت في سوح القتال ، أو لم يستقم على جادة الشريعة فمارس من الأفعال والأقوال ما يفضي إلى غضب الله عزّ وجل كالقتل والزنى وشرب الخمر وما شاكل ذلك من كبائر الذنوب وأعاظمها ، فإن الرضا يزول عنه ويكون مورداً لغضب الله سبحانه.
أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال : ( لقيت البراء بن عازب رضي الله عنهما ، فقلت له طوبى لك صحبت النبي صلى الله عليه وسلم ، وبايعته تحت الشجرة ، فقال يا ابن أخي إنك لا تدري ما أحدثناه بعده ) (12) .
فهذا الصحابي البراء بن عازب لم يفهم من الآية الرضا المطلق ، وإنّما الرّضا المقيد بالاستمرار في طاعة الله ، وهذا ما يفهم من قوله : ( إنك لا تدري ما أحدثناه بعده).
وهناك حديث آخر مروي في موطأ مالك بن أنس عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أنّه بلغه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لشهداء أحد هؤلاء أشهد عليهم ، فقال أبو بكر ألسنا يا رسول الله بإخوانهم أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي ، فبكى أبو بكر ثم بكى ، ثم قال إنّا لكائنون بعدك ) (13) .
وهو يفيد أنّ رضا الله عزّ وجل عن عبده – صحابياً كان أو غيره – مشروطٌ بتقيّد العبد بطاعة الله ، أما إذا ما نحرف عن الطاعة وسلك غير جادة الحق فإن رضا الله عنه يزول ويحل محلّه غضبه سبحانه ، فلذلك نجد النبي صلى الله عليه وآله يشهد لشهداء أحد لعلمه بحالهم ، بينما لا يشهد لغيرهم من الصحابة لأنه لا يعلم ما يحدثوا بعده ، فلو كان رضا الله عزّ وجل للصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم من سائر الصحابة مطلقاً وغير مقيد بالاستمرار في طاعة الله لما كان هناك مانع لرسول الله صلى الله عليه وآله من أن يشهد لجميعهم .
إن جماعة ممن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله تحت الشجرة نكثوا بيعتهم هذه يوم حنين عندما انهزموا من ساحة المعركة وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله طعمة لذؤبان العرب ومشركيها .
وقد ذكرنا فيما سبق أنّ الذين رجعوا إلى ساحة المعركة من مجموع الذين انهزموا وفرّوا مائة منهم فقط ، فلو فرضنا أنّ هذه المائة كلهم من أهل بيعة الرضوان ، فيبقى أنّ هناك جماعة منهم ظلّوا هاربين إلى نهاية المعركة .
فهل يكون الله عزّ وجل راضياً عن هؤلاء الفارّين من أهل بيعة الرضوان ؟
الجواب : قطعاً لا ، لأن الله عزّ وجل يقول في كتابه المجيد : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ] (14) .
وعليه فكما أنّ الإستدلال بقول الله تعالى : [ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] على عدالة جميع الصحابة باطل ، فكذلك لا نستطيع أن نحكم بموجب هذه الآية على عدالة من بايع تحت الشجرة ، وذلك لأن استمرارية الرضا لهم من الله مشروطة بعدم نكثهم لهذه البيعة ، والإسقامة على جادة الحق ، وقد دلّت الأدلة على أنّ بعضهم قد نكث هذه البيعة يوم حنين ، وما دام لا تعرف أشخاص من نكث من غيرهم فنحتاج إلى دليل آخر يثبت لنا عدالة جميع من بايع تحت الشجرة غير الآية ، نعم لو ثبت لنا أن هناك أشخاصاً بأعيانهم لم ينكثوا البيعة ولم يمارسوا من الذنوب والمعاصي ما يؤدي إلى غضب الله من يوم بيعتهم وإلى يوم رحيلهم من الدنيا فإن الآية – بلا شك – تكون دليلاً على عدالتهم .
ومنها قوله تعالى : [لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ] (15) .
وقال: [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ] (16).
مدّعين أنّ الله سبحانه وتعالى شهد لعموم الصحابة بالحسنى ومن ثم بالجنة ، وهذا دليل على عدالتهم ، وكان على هذا المستدل وقبل أن يفتري على الله عزّ وجل ويزعم بأنه سبحانه شهد لجميع الصحابة بالحسنى ومن ثم بالجنة أن يثبت أن جميع الصحابة متصفون بصفتي الإنفاق والقتال وإلاّ فدعواه باطلة ، ثم إن دونه لإثبات ذلك خرط القتاد ، لأنه من المعلوم والمتسالم عليه بين المسلمين أن الكثيرين ممن عدوا في عداد الصحابة لم ينفقوا ولم يقاتلوا لا قبل الفتح ولا بعده .
فهناك الكثيرون ممن جاؤا إلى النبي صلى الله عليه وآله من القبائل البعيدة عن مكة أو المدينة وأسلموا على يد النبي صلى الله عليه وآله وسمعوا منه ثم رجعوا إلى مواطن قبائلهم دون أن ينفقوا درهماً أو ديناراً أو يطعنوا برمح أو يضربوا بسيف في سبيل الله ، وأيضاً من بين الصحابة المؤلفة قلوبهم ، وهؤلاء كان النبي صلى الله عليه وآله هو الذي ينفق عليهم ويعطيهم من غنائم الحرب تأليفاً لقلوبهم على الإسلام ، فهؤلاء لا يشملهم الوعد بالحسنى التي تتحدث عنه الآية لفقدانهم صفة الإنفاق التي هي إحدى الصفتين المترتب على الاتصاف بهما نيل الحسنى .
وكذلك من بين الصحابة حسان بن ثابت الذي لم يضرب ولو ضربة واحدة في سبيل الله لا في حياة النبي صلى الله عليه وآله ولا بعده ، وكانت الحياة أحب إليه من القتال والشهادة .. فكيف يشمله الوعد بالحسنى المشار إليه في الآية ؟
بل إنّه لا يستطيع أن يثبت من هذه الآية عدالة المعين من الصحابة فضلاً عن مجموعهم ، فاتصاف الصحابي بصفتي الإنفاق والقتال لا بد من إثباته بدليل آخر ، لأن الآية لا تدل على شيء من ذلك ، فاستدلالهم بالآية الكريمة على عدالة جيمع الصحابة هو نوع من التحريف في آيات كتاب الله عزّ وجل انتصاراً لأهوائهم .
ومنها قوله تعالى : [لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ] (17) .
ومنها قوله تعالى : [وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ] (18) .
أقول :
أولاً : إن من بين المهاجرين والأنصار من وصفه القرآن بأن في قلبه مرض وذلك في قوله تعالى : [وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ] (19) ، وهذه الآية التي هي من سورة المدثر المكية النزول تشير إلى وجود مرضى القلوب في مكة ، وجعلتهم قسيماً لأهل الكتاب والمؤمنين والكفار ، وسواء قلنا بأن المراد بمرضى القلوب المنافقون أو ضعفاء الإيمان والعقيدة فإن هؤلاء لا يمكن أن نصفهم بأنهم من الصادقين وممن رضي الله عزّ وجل عنهم ، وباعتبار أن هؤلاء غير مشخصين بأعيانهم من بين المؤمنين المهاجرين فلا يمكن الحكم بعدالة معين ممن اتصف بالهجرة بموجب هذه الآيات بل لا بد من قيام دليل آخر على عدالته .
ثانياً : إنّ من بين الأنصار من هم منافقون يقول تعالى : [وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ] (20)، وقطعاً هؤلاء ليسوا من أهل الفلاح ولا من الذين رضي الله عنهم ، وباعتبار أن بعض هؤلاء المنافقين المعدودين في الأنصار ليسوا بمشخصين بأعيانهم وأسمائهم ، بل إن بعضهم غير معروفين حتى للنبي صلى الله عليه وآله كما هو صريح الآية السالفة ، فلا يمكن أن نحكم أيضاً بعدالة معين من الأنصار بموجب الآية فضلاً عن المجموع ، بل لا بد من قيام دليل آخر على عدالته .
ثالثاً : ثم إن من الذين جاؤا من بعدهم من الصحابة أناس لم يتبعوهم بإحسان ولم يستغفروا للذين سبقوهم بالإيمان ، بل أصبحت قلوبهم مرتعاً للغل والحسد للذين آمنوا من مثل معاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص وأبو الغادية يسار بن سبع وأمثالهم من البغاة والقاتلين للصادقين من المهاجرين والمفلحين من الأنصار في الجمل وصفين وغيرهما ، واللاعنين لآل محمد صلى الله عليه وآله على المنابر في خطبهم وغيرها .
ومنها قوله تعالى : [ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ] (21) .
وقوله تعالى : [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] (22) .
أقول: الخطاب في هاتين الآيتين ليس مقتصراً على الصحابة ، بل هو لجميع أمة النبي محمد صلى الله عليه وآله ، فإذا كان فيهما دلالة على عدالة كل الصحابة ، فيلزم القول أنهما تفيدان عدالة جيمع أمة محمد صلى الله عليه وآله ، وهذا لا قائل به ، فعدم دلالتهما على عدالة جيمع الأمة دليل على عدم عدالة جيمع الصحابة .
فتبين من كل ما أوردناه حول الأدلة التي يعتمد عليها القوم في إثبات عدالة جميع الصحابة أن هذه العدالة المدعاة مزعومة لا يسندها دليل من كتاب الله عزّ وجل .